سماء ملبدة بالأرانب

س= قصة قصيرة

رفع مهاب رأسه نحو السماء، تكاثفت الكتل البيضاء على امتدادها منذرةً بهطول الأرانب. وثَب وثبة ساعده جسده الهزيل وقدماه الطويلتان على احتمالها، واحتمى بمدخل المبنى قبل أن يسقط الأرنب الأول. التفت نحو الشارع الذي بدأت مصابيحه بإغلاق أعينها أمام شمسٍ تستيقظ  على استحياء، وبالفعل سقط الأرنب هناك، حيث كان منذ ثانية فقط، ومن حوله بدأت الأرانب تنهمر تباعًا، على أسقف السيارات، وعلى صفائح القمامة،  وتقلّصت مساحة الأسفلت السوداء أمام غزو الفرو الأبيض.

كانت السحب تتمخّض الأرانب الواحد تلو الآخر، راقبها تنقسم كورًا بيضاء، تهوي فينبت لها أُذنان، وقوائم أربع تتمطى للأسفل بعد سباتٍ، ثم تعود لتنكمش استعدادًا للسقوط. كان منظرها يغريه لأن ينفثها في الهواء لتتطاير حوله كالبالونات، لكن الكدمة التي سببها أرنب أول أمس جعلته يصرف النظر عن تخيّلاته.
أدرك مهاب ما أن استيقظ أنه لابد من الوصول باكرًا، قبل أشعة الشمس الكسولة في صباحات ديسمبر، فلا مجال للتنبؤ بساعة توقف المطر، وتغيّبه اليوم قد يكلفه وظيفته التي بالكاد تكفي مصاريف إيجار شقته الصغيرة وطعامه المتواضع جدًا. 

عدّل من وضعية حقيبته الجلدية وتأكد من إحكامها، ثم تجاهل المشهد الحاصل وانطلق صاعدًا السلم، درجة فدرجتين، ثم خذلته أنفاسه عند الطابق الرابع، حيث استند بيده على الجدار الذي اعتاد على هذا الهزيل الذي لا تتحسن لياقته رغم أنه يصعد ذلك السلم ستة أيام في الأسبوع منذ الشتاء الماضي. وهنا لاحظ مهاب باب العيادة النفسية على يمينه مفتوحًا، استوقفه ذلك، فخلال السنة التي عمل بها هنا لم يكن هذا الباب مفتوحًا وقت وصوله أبدًا، وقف قليلًا يتأمل اللوحة الخشبية التي توسطت الباب الأزرق محفورة بخطٍّ ذهبي أنيق: الدكتور هشام الويجي.

مد رأسه وقد دعاه الصمت ليتفقد المكان، سار على أطراف أصابعه خشية أن يجد موظفة الاستقبال التي تلوك العلك كسفينة تتلاعب بها أمواج اللّعاب، أو أن يجد الدكتور نفسه وهذا هو السيناريو الأسوأ. فقد تقابلا مرة واحدة ضمن الإطار الرسمي حين سلمّه مهاب نتائج فحصٍ أجراه في المختبر حيث يعمل فوق العيادة بطابقين، أما بقية المرّات فكانت مصادفة حين يخرج مهاب بعد عمل لم ينتهِ سوى قرب منتصف الليل ليجد الدكتور الذي ظن المبنى خاليًا ليفعل ما شاء بمن معه تلك الليلة، وغالبًا ما تكون موظفة الاستقبال نفسها، حيث تصله أصواتهم الفاضحة عبر الباب الأزرق المغلق. فكان يتسلل سريعًا متجنبًا أي فرصة للقائه.

تشجع مهاب عندما وجد غرفة الاستقبال خالية تمامًا، خطا إلى الداخل وانتبه لظل يتحرك وراء الزجاج المعشّق لباب مكتب الدكتور هشام، اقترب بهدوء فوجد رجلًا جالسًا خلف المكتب، محنّي الظهر في قميص مخطط تعلوه سترة من الصوف. وقف برهة وحبس أنفاسه خشية أن يفزع الرجل الجالس، واستغل عدم انتباهه ليتأمل ملامحه، كان وجه الرجل أشبه ببالون مُهمل تسرّبت من ثقوبه الروح حتى تهدّلت ملامحه. ارتخت ذراعا الرجل أمامه على سطح المكتب، وبين أصابعه إطار صورة التقطها من على المكتب كما يبدو. أما وراءه فكانت المكتبة بأبوابها الزجاجية تعكس المشهد كاملًا، وتعرّي تفاصيله أمام مُهاب، ليفهم ما قد حدث هنا.
ثوان مضت ليقرر مهاب التدخل، فطرق الباب المفتوح طرقة واحدة بمفصل إصبعه، وسرى أثرها حتى الجالس أمامه فانتفض رافعًا رأسه. 

بدأ مُهاب حديثه: آسف.

جاء صوت الرجل خلف المكتب حادًا: من أنت؟!

ظل مُهاب مكانه: لدي موعد.
لوّح بيده: العيادة تفتح في.. الــ عاشرة، عد لاحقًا.

- لا أستطيع.. السماء تمطر.. لن أستطيع الخروج.

أشار الرجل بيده للمظلة المتروكة في الزاوية: خذها وعد بها عند العاشرة.

تقدم مُهاب برأسه فقط عبر إطار الباب ونظر للنافذة العريضة حيث أمطار الفرو الأبيض:
لن تحميني المظلة من الأرانب.

التفت الرجل حيث علق بصر مهاب: أي أرانب؟

- إنها تمطر بالأرانب منذ الصباح، لن أستطيع الخروج حتى تتوقف.

حدّق الرجل بارتباك فعاد مهاب للمحاولة: من فضلك، لقد أصابني أحدها أمس.. أعني أول أمس، ولاتزال الكدمة تؤلمني، ثم قال وهو يدلك كدمته: لن أخرج حتى تتوقف. 

نقّل الرجل بصره بين النافذة والشاب أمامه، وبطرف بصره نظر لما يقع أسفله، وأخذ ينقر على الطاولة بأطراف أصابعه التي اصطبغ تحت بعضها بالأحمر.

بادر مُهاب وجلس على المقعد الأزرق بجانب الباب، ثم التفت برأسه وحدّق بالنافذة حيث قابله أرنب هوى مقلوبًا، والتقت عيناه بالجمرتين المتوهجتين وسط البياض: إنها علامة موت قريب. 

سأله الرجل: الأ.. الأرانب. 

أومأ مُهاب.

- إنذرًا بموتك؟ 

- إنذار عام بالموت.. شخص ما في مكان ما.

- موت قطة؟ كلب شوارع..؟

- لا لا، البشر فقط حمدًا لله، وإلا لم تكن السماء لتتوقف.

مرر الرجل يده في خصلات شعره المبتلة: متى أول مرة رأيت فيها أرنبًا؟ 

تذكرت يدا مهاب التي عقد أصابعها في عناقٍ قاسٍ ملمس الأرنب الأول، الذي استقر في حضنه يوم زاروا جدته في البلد، فقد جلس على عتبة الباب الحجرية، وتخللت يده فرو الأرنب الكثيف، كان انسياب ملمسه على كفيه أنعم من يد أمه، وهذا ما علق معه من تلك الذكرى حتى اليوم:
لم يكن أبيض اللون، بل مشمشي.

- وأرانب الموت التي تراها الآن.. بيضاء؟ 
أومأ مهاب.

- حسنًا.. متى كانت أول مرة رأيت فيها أرنبًا أبيضًا؟

- يوم ماتت أمي.. لم ينزلوا من السماء، كانوا هناك في غرفتها، على الأغطية، أزواج من العيون الحمراء تلمع تحت السرير، جسدها ممدد في الأعلى وهم حولها، يلعقون الـ.. الكدمات والجروح المتخثرة.

واستعادت يد مُهاب ذكرى يد عمته المبللة بالدموع، عندما سحبته من يده خارج الغرفة وأغلقت الباب على هذا الفصل من حياته، عندما كان له أم.

مسح مُهاب يديه ببنطاله قبل أن يشبكهما مرة أخرى. 

- وبهذا صِرت ترى الأرانب عند الموت؟ 

إيماءة أخرى.

- أي موت؟ لن يموت شخص في أمريكا فتمطر السماء فوقك هنا، أليس كذلك؟

- لابد أن يكون شخصًا أعرفه، أكون قد قابلته ولو مرة، كالرجل الذي مات الأسبوع الماضي..

كنت أسير في الشارع عندما فتحت السماء أبوابها لتقذفني بالأرانب، حتى أن أحدها أصابني. وعاد مُهاب يدلك تلك الكدمة ثم أكمل: جريت أحتمي  بمظلة الفكهاني عند ناصية الشارع، وهناك اصطدمت به، مجرد عابر لا أعرف اسمه ولا أظنني حتى التقطت ملامحه.. عَبَر الشارع ثم أتت السيارة من حيث لم ينتبه وهكذا - وفرقع بأصابعه- حدث الاصطدام، واحتبست السماء.

- هذا مريع! معرفة من سيموت حولك دائمًا.

- ليس دائمًا. مات أبي ولم تنذرني الأرانب، وقبله بأشهر ذاك الطبيب في شارعنا.

- وما تفسيرك؟

أخذ مُهاب نفسًا قصيرًا وزفر كلماته: فكرت بالأمر كثيرًا، لسنواتٍ ظننت الأمر خاصًا بأمي، لأنها ذبحت ذاك الأرنب..

زفر الرجل: هل تعلم عدد من ذبحوا الأرانب في مصر وحدها؟
مُهاب نفسه تناول العديد منها قبل الثامنة، فهي الأكلة الرسمية كلّما زاروا البلد، لكنه لا يتذكر سوى تلك المرة عندما أخطأت أمه زاوية إمساكها بالسكين ورأي الأرنب الأبيض انعكاس مصيره على شفرته، فأطلق صراخًا بدا وكأنه يصدر عن كل عظمة منتفضة تحت جلده الرقيق، وتلوّى كعود أحرقته الصدمة، حتى ظن مهاب أن جسده سينفصل عن أذنيه التي أحكمت والدته قبضتها حولهما.توسّل كثيرًا أن تتركه، لكنها لم تفعل إلا بعد أن انتهت، وصمت الأرنب ومُهاب معًا. ولم يأكل لقمة يومها، ولم يأكل أرنبًا من بعدها أبدًا.

نقر الرجل بقلمٍ على المكتب ليستعيد انتباه مهاب: اذًا، أمطرت عن وفاة أملك وعند ذلك الرجل الذي اصدمت به؟
أكمل مُهاب: وغيرهما الكثير، بهذا أدركت أن الأمر متعلق بأبي والطبيب، فالطبيب مثلًا كان سيء السمعة، كل من في الشارع كان متأكدًا أن عيادته تقوم بعمليات مشبوهة، وهناك شابة توفيت هناك بالفعل، لكن أحدًا لم يستطع إثبات الأمر، أتذكر والدها، سيد عجوز كان يجلس كل يوم أمام العيادة، دون كلمة واحدة، وكلّما رآى الطبيب علا صوته بالسباب والدعاء عليه، وبعدها،أنت تعرف كيف تجري الأمور، مجموعة من البلطجية افتعلوا معه مشكلة ما، ومن يومها لم يعد. 

سأل الرجل: أتعلم كيف مات؟

- الطبيب؟ اه أجل، سمعت أن الأخرق نسي آلة الحلاقة بجانب حوض الاستحمام. وهكذا ”غار في ستين داهية“ ولم أر أي أرنب يومها، فهي لا تظهر لحثالة البشر.

انفرجت شفتا الرجل في البداية دون صوت، ثم وجده بعد ثوانٍ: ووالدك؟

- أصدقك القول أراحني هذا الاستنتاج كثيرًا. فقد كدت أفقد أعصابي أثناء العزاء عندما علّق الأستاذ فتحي جارنا أن وفاة والدي يوم الجمعة علامة على حسن الخاتمة. فأنا متأكد أنه لاحظ الأمر، فهو يسكن في الشقة المجاورة، والحوائط أرق مما تبدو.

ثم عاد مُهاب يحدق في النافذة. سأله الرجل: ألا تزال تراها؟

أومأ.

- اذًا فحسب كلامك قتيل اليوم هو روح طيبة؟

أومأ مجددًا.

فأطلق الرجل صوتًا حار مُهاب في تفسيره، ضحكة أم كحّة: ”شِالله يا سيدنا!“

ثم نكّس الرجل الإطار أخيرًا على المكتب حتى شكّ مهاب أن الزجاج انسحق على السطح الخشبي: ومن أنت لتحدد؟؟ ها؟؟ ولي من أولياء الله!!

- أنا أبعد ما يكون عن ذلك. أنا كوالدي؛ شيطان. لن تمطر السماء لأجلي. 

-  شيطان مؤمن بكراماته إذًا!

ضحك مُهاب: كرامات فريدة من نوعها، تصيبك بالكدمات وتجعلك تمشي كالمجانين. تخيّل نفسك واقفًا بين بين أصدقائك عندما تقرر السماء فجأة أن تمطرك بالأرانب، فتركض مبتعدًا تحت أقرب سقف دون تفسير، وكيف لك أن تفسّر؟ هل تعلم كم لبثت في الجامعة من سنوات بسبب الامتحانات التي قرر طقسي الخاص أنني لن أحضرها!
سحب الرجل نفسًا عميقًا: يا بُني، لا تحكم على نفسك.. أو على أحد، هذا قصدي - وأشار بالسبّابة للأعلى- ربك أعلم.

اسند مُهاب ظهره على الكرسي بحرص حتى لا تطلق الكدمة شراراتها عبر فقرات ظهره: كسرتُ بيضةً عندما كنت في العاشرة. تخيّلت أن أمي من ستثور لأنها ستضطر لامتصاص هذه البركة اللزجة، إلا أن أبي من تحطمت قشرته، وأطلق سيلًا زفرًا من السباب، فهو من كدّ و ”طلع ميتين أمه“ ليوفر لنا الغذاء. وهكذا كُسر سني إلى جانب البيضة، وحصلت أمي على كدمة تشبه - وياللسخرية -البيضة المسفوكة على الأرض. لم أستطع النظر لوجهها لأيام حتى زالت الكدمة، التي ظهرت في الأصل مكان أخرى سبقتها، وأفسحت المجال لأخرى قادمة، هكذا كانت حياتنا.

- لم تكن غلطتك، كنت طفلًا.  

- وكيف تظنه مات إذًا؟ أبي.

وكانت هذه المرة الأولى التي ينظر بها مهاب لعيني الرجل لأكثر من خمس ثوان، ثم أشاح ببصره نحو سماء ديسمبر وأرانب تتساقط، تتراكب، تصطدم ببعضها لتهوي، وأكمل: بعد انتهاء مراسم الدفن والعزاء، كان واقفًا في البلكونة يدخن، وقفت أراقبه، لا أعلم ما كنت أراقب، ربما كنت بانتظار انقشاع الغمامة وحلول الذنب. التفت أبي عندما أحس بوجودي، وهنا قال بالحرف: ”لم أتخيل أن تصل الأمور لهذا الحد.“ وكانت جملته المسمار الذي ثبّت لوحةً رسمها الشك داخلي لما حدث. ورغم ذلك انتظرت، خاصة وأنه توقف عن ضربي بضعة أسابيع، لكن عمّتي لم تنتظر شهرين حتى أتت تجر  بزوجة جديدة إلى المسلخ، فتاة يتيمة من البَلَد، لأنه ”مينفعش تفضل كده“ و ”الولد محتاج ست تربيه“. 

الحق أني أحببتها، كانت تكبرني بخمسة عشر عامًا تقريبًا.. طيبة وغلبانة، ولأنها تعلم معنى اليتم، لم تبخل علي بكل ما فقدت. دام الحال شهرًا واحدًا فقط ، حتى انقطع الخيط الذي كان يمسك بيد والدي، وهوّت علينا قبضته بثقلها مرة أخرى. أذكر جيدًا ذلك اليوم، عندما كنت في الثانوية، في سنتي الأخيرة، وكنت أنظر عبر شبّاك الفصل، حيث لاحت لي السماء ملبدة بالغيوم، تجمدت يومها، وغاب الفصل بكل ما حولي عن عيني، وعلت نبضاتي حتى غطت على صوت معلمي، وتباطأت أنفاسي تحت وطأة ثقلها، أغمضت عيني وأنا أتخيل رحمة ممدة على بلاط المطبخ، أو غارقة في دمائها أسفل السلّم كأمي، ولم أفتح عيني إلا عندما  صفعتني السماء بقطرة ماء، وتيقنت أنها تمهلني فرصة أخرى، فرصة أخيرة لأتصرف، قبل أن تسكب الموت فوق رأسي مرة أخرى.

في تلك الليلة  بقيت جانب النافذة في غرفتي منتظرًا السماء، إلا أنها لم تمطر، أمضيت ليلة كابوسية ظننت فيها أنني أخطأت الجرعة، وأنني سأستيقظ لأجد جيش من رجال الشرطة عوضًا عن صف من المعزّين، إلا صرخة رحمة صباحًا أيقظتني على حياة بلا أبي، وهكذا رحل بلا أرانب. 

حار الرجل فيما يقول. ثم دلّك جانبي رأسه بأصابعه وقال: طيب. الطبيب وأبوك حالتان فقط. هذا ليس إثباتًا كافيًا.

- هناك المزيد لو تملك الوقت.

علا صوت الرجل بحدة: الأرانب ليست علامة حسن الختام. 

- لم أقل ذلك، أنا فقط أشاركك استنتاجي المنطقي.

- لا منطق فيما تقول! ألا تسمع نفسك؟

ضحك مهاب: ألم تسمع حكايتي، أي منطق تنتظره مني؟

- ماذا لو كنت مخطئًا؟ 

انحنى مُهاب للأمام: أنت تجادلني في معنى الأرانب؟ وليس في منطق ظهورها من الأساس؟ 

خبط الرجل بيده على المكتب: لأن وغدًا مات اليوم.. وأنت تخبرني أن السماء تمطر لأجله! 

ظل ينظر لمُهاب فترة، ثم دفن وجهه في كفيه متمتمًا: يا إلهي.. هل أخطأت؟

ابتسم مهاب بعطف:لم أقل أن السماء تمطر لأجله..لا تقلق، فقد استحق ما حدث، وأنا لا أتكلم عن والدي.

ارتد وجه الرجل عن كفّيه، وأكمل مُهاب: استحق دكتور هشام الموت. 

شهق الرجل: كيف..؟

أشار مهاب لباب المكتبة الزجاجية خلف الرجل الجالس، حيث تعرّى انعكاس المشهد أمامه منذ لحظة وصوله:جثة الدكتور هشام المكوّمة كملابس وسخة تحت المكتب، ورأسه الملتوي ينظر لقدمي قاتله، وانعكاس نظرته الخاوية تحدق في مهاب عبر الزجاج طوال الوقت. 

التفت الرجل لانعكاس ما فعل، ثم هبطت كتفاه وعاد بظهره للوراء: لماذا بقيت اذًا؟ 

- ملامحك. وجهك ذكّرني بليلة عزاء أبي، عندما رحل الجميع وبقيت وحدي وما فعلتُ قِبال بعضنا. إنها الساعة الأصعب.

خرج صوت الرجل مهتزًا كشفتيه: ماذا لو كنت مخطئًا؟ 

ولوّح بالإطار حيث صورة الدكتور هشام وفتاة شابة: لديه ابنة. 

أكد مُهاب: كانت الأرانب لتتوقف لو كان شخصًا جيدًا.

التفت الاثنان نحو النافذة، أحدهم يراقب المطر، والآخر يتخيله.

سأله مُهاب: هل كنتَ مريضًا عنده؟ 

- بل مريم.. ابنتي، كانت تأتي إلى هنا حتى الصيف الماضي.

- مهلًا! أهي الفتاة ذات الشعر الأسود، وقرطان يتدليان من أذنيها، قمرٌ ونجمة؟ 

التفت الرجل بسرعة: أتعرفها؟

- اصطدمت بها مرة وهي تندفع خارجة من العيادة، لم تكن على ما يرام، كانت ترتدي فستانًا أزرق بطبعات زهر بيضاء..
خرج صوت الرجل كالصفير بين شهقاته المتتابعة: كان هذا ما ارتدته.. يوم.. تركتني.
أكمل مهاب:  أذكر أن الدكتور لحق بها، ولكنه توقف ما أن رآني، تلعثم، وعاد أدراجه.. أما هي فجلست على السلم، لم تكن تبكي، بل كانت تحدق بما حولها وكأنها ترى كل شيء للمرة الأولى، أذكر أنني كلمّتها، لكنها لم تجب، أو بالأحرى لم تنفذ كلماتي خلالها، كانت مصمتة تمامًا.. ورحلت، وبقيت أنا حبيس المبنى بسبب الأرانب حتى منتصف الليل.

نهض الرجل واقترب من النافذة: كانت كل ما أملك، مع ذلك لم ألحظ الأمر، كانت روحها تنكمش، تغادر أطرافها، حركاتها، نظراتها حتى لم أعد قادر على تحديد مكانها، مريم كانت قد رحلت بالفعل، جسدها هو من قرر أنه لا جدوى من الاستمرار.. 

- ماذا فعل لها؟

التفت برأسه ينظر إلى قتيله: هل يهم؟

شعر مُهاب بوخزة تأنيب، وهزّ رأسه نافيًا. 

عاد الرجل ينظر إلى النافذة، وخرج سؤاله: إذًا.. لمن تمطر سماء اليوم في ظنك؟

- لا أدري.

عاد الرجل: هل أنت أحد مرضاه؟ 

-لا.. أنا أعمل في المختبر في الطابق السادس. 

- سؤال أخير: هل لا تزال تمطر؟ 

أومأ مُهاب: أجل.

- شكرًا.. طمأنتني.

وعلى انعكاس النافذة جلس مُهاب يراقب انقشاع ذلك التعبير الذي رصده صباحًا على وجه الرجل، وصفت ملامحه، وخيّل إليه انحناءة في الشفتين. وبهذا نهض مُهاب من مكانه وتوجه نحو الباب، وقبل أن يخرج من العيّادة هبّ هواء بارد مفاجئ تطايرت من قوّته صفحات المجلات والأوراق في جنون!

التفت خلفه فوجد النافذة مفتوحة، والهواء يلكم الشيش الأزرق ليرتطم في الحائط، وعلى حافتها وقف الرجل بقميصه المخطط، تهوي عليه الأرانب متشبثة بقميصه، واحد واثنين وثلاثة، على كتفيه وصدره وذراعه. ركض مهاب ومد يده محاولًا إيقافه، فلم يمسك سوى الريح، وهوت الأرانب مع الرجل إلى الأسفل. 

تراجع بشهقة مغلقًا عينيه. وعندما عاد وفتحهما، اتسعتا، فقد رأى أخيرًا سماءًا صافيةً، بلا أرانب!

كاد يتعثّر بخطواته حتى تمسّك بإطار النافذة ونظر للأسفل حيث تمدد الجسد، وتحلّقت من حوله الأرانب، والتي خيّل إليه أنها تقافزت في مجموعات من ورودٍ بيضاء قبل أن تختفي.

استثار المشهد قنواتٍ نسيت كيف تسكب الماء، وهطل المطر في عيني مُهاب، ماءًا صافيًا، تشرّبته وجنتاه والشقوق في شفتاه نهرًا ، وانهار على ركبتيه بعد أن عجز جسده الهزيل تحمّل اختلاط المشاعر، رقصاتها المحمومة داخله، وامتزاج الضحك بالنحيب، والمالح بالحلو، لكنه لم يهتم، وبقي مكانه رغم صراخ من استيقظ ورأى ما حدث، فقد أدرك أنه لربما.. ستمطر السماء لأجله أيضًا ذات يوم. 

المتغيرّ سين
المتغيرّ سين

تختلف التدوينة حسب المعادلة