1Q84: العام الذي فقدت فيه إعجابي بموراكامي
س= سؤال
البارحة أمسكت بهاتفي وكتبت لصديقتي مصرّحة بانتهاء علاقة دامت ثمان سنواتٍ تقريبًا:
اليوم انتهى حبّى لروايات هاروكي موراكامي!
وكأي علاقة طويلة الأمد، تراكم الامتعاض في نفسي مدة طويلة، حتى بدأت قراءة الجزء الثاني من ثلاثية 1Q84، وتوقفت أمام مشهد أفقدني الرغبة في الاستمرار: في غرفة فندق، وقفت البطلة ”أومامه“ أمام زعيم طائفة دينية مريبة، في عالم موازي عام 1Q84، بهدف اغتيال الزعيم بسبب علاقاته الجنسية بفتيات لم يبلغن بعد، ومنهن ابنته. ودار بينهما حوار طويل نجح فيه موراكامي بخلق تبريرٍ لهذه الشخصية، حتى أنها في النهاية فقدت رغبتها في قتله. هنا أغلقتُ الرواية وأنا أتسائل: ماهي الحدود الأخلاقية في الخيال؟
ثيمة الأدب والجنس والعلاقة بينهما مسألة شائكة يقف أمامها العديد من الكتاب -وأنا منهم- في محاولة لتعريف الحدود وما ينبغي فعله. فمهمة الكاتب هي تكوين شخصيات واقعية بما يكفي ليقتنع بها القارئ، ويصدقها، بل ويتبنى منظورها ويتعاطف معها. ولكننا نجد أنفسنا في بعض الأعمال أمام حالات شاذة بدعوى الواقعية، فيخلق شخصية روائية بمنظور منحرف عن العالم، ونجد الكاتب يكرس خياله لنسج حجة ”منطقية“ حسب قوانين عالم روايته الخيالي، لتبرير عمل غير أخلاقي. بل ويدفعك حتى للتعاطف مع مرتكب الفعل.
وهذا يقودنا لسؤال محوري: من السهل الحكم على الأفعال، خاصة العلنية، أما الخيال فهو محض تصور في مخيلة صاحبه، فما هي الحدود الأخلاقية والاعتبارات التي يجب وضعها عند التخيّل؟
تزداد أهمية هذا السؤال إن كان الخيال سيخرج من ذهن صاحبه إلى العلن، سواء في عمل سردي أو بصري.
”الخطأ يكمن في الاستمتاع بالشر، حتى في سياق تخيلي.“ بعبارة أخرى، من الخطأ أن يجد الإنسان لذة في تخيّل أشياء شريرة (Smuts 2013، 2016). فإن استمتع شخص بتعذيب الأطفال في خياله، أو بتخيّل الاغتصاب، دون أن يؤذي أحدًا في الواقع، فإننا نميل رغم ذلك، بشكل فطري، إلى تجريم هذه الصورة الخيالية واعتبارها خطأ.
التفاعل التخيّلي مع الأدب بحسب مارثا نوسباوم ”يساعد الناس على تطوير قدراتهم على التمييز بين الجوانب الأخلاقية المهمة في المواقف المختلفة.“ فالخيال يهيّئ القارئ لتجربة وجهة نظر أخرى من خلال تزويده بالمعلومات اللازمة لإعادة بناء منظور مختلف. وهنا تكمن الخطورة. فرغم أن ذلك قد يساعدنا على تعزيز شعورنا بالتعاطف مع الآخر، إلا أن الأعمال السردية التي تتبنى وجهات نظر منحرفة أو مشوهة أخلاقيًا يمكن أن تدعو المتلقي لتبني قيم ومواقف مشابهة. فالخيال هنا وسيلة تطبيع مع فكرة مرفوضة أخلاقيًا.
وتضيف نوسباوم كذلك أن الأدب ينمّي قدرتنا على رؤية الجوانب الأخلاقية. ومع هذا يمكن للأدب أيضًا أن يعرض منظور منحرف بشكل جذّاب، أو أن يقدم صور مشوهة عن مجموعة مهمشة، وهذا من شأنه أن يحجبنا عن المعرفة الحقيقية. مثل ارتباط أصحاب البشرة السوداء في اللاوعي الجمعي بالجريمة، وهو ما يُعتقد أنه مرتبط بحالات العنف البوليسي ضدهم. فلو فرضنا أن هناك رواية تصنف جميع الأشخاص من ذوي البشرة السوداء بأنهم مجرمين بل وتقدم الحجج التي تقنع القارئ بذلك دون شك؛ فإننا سنعارض الفكرة الأخلاقية التي أسست هذا الفضاء الروائي.
"How do we begin to covet? We begin by coveting what we see everyday"
”متى نبدأ باشتهاء شيء ما؟ عندما نراه كل يوم“
جاءت هذه الجملة ضمن حوار بين هانبيال ليكتر والمحققة كلارينس في فيلم صمت الحملان. لم أستطع نسيانها منذ سمعتها، فهي الحقيقة في أبسط صورة: الرغبة لا تتكون من العدم.
لن تشتهي ما لم ترَ أو تسمع به في حياتك، لأنه غير موجود في منظورك. وهذا يؤكد خطورة الخيال المشوّه على المتلقين. خاصة المنشور منه على نطاق واسع سواء في عمل أدبي أو تلفزيوني أو غيره. فهو أشبه بكشف الستار عن جانبٍ لم تتخيل وجوده من قبل.
فماذا سيحدث لو ألهم هذا الخيال أحدهم، فما عاد يكتفي بالصورة، بل بدأ باشتهاء الفعل؟ إلى أي حد يتحمل الخيال وصاحبه مسؤولية ما سيحدث؟

تختلف التدوينة حسب المعادلة